فرانسوا هولاند في بيروت، خبر كان ليتحول الى حدث لبناني ومشرقي وإقليمي، لو كان الضيف يوازي حجم بلاده التاريخي. لكن، مع هذا الرئيس لـ»هذه الفرنسا»، يتحول خبر زيارته الى مرتبة ثالثة ورابعة، بعد خلافات العائلات البيروتية على مخاتير المصيطبة. وليس لأحد أن يعطي أهمية لحدث، ما لم يكن الحدث نفسه له موقعه الفعلي.
بلد أفقده أبناؤه أدواره الجدية في العالم، واختير لرئاسته شخص غير موثوق من أفراد عائلته وحاشيته، ويعاني حزبه الانفصام الأكبر في شخصيته السياسية وطنياً وخارجياً. عندما تكون المحصلة كهذه، كيف يمكن تخيّل نتائج استثنائية لزيارة الرئيس الفرنسي لبيروت.
فرنسا التي زارنا رئيسها، وضعت نفسها، منذ سنوات بعيدة، ضمن أدوات السياسة الأميركية في العالم. هي هكذا داخل أوروبا نفسها. وهي هكذا في كل أمكنة العالم. أما في منطقتنا، ولكي تكتمل صورة العجز والتبعية، أقرت حكومة فرنسا بقيادة المذكور، ومن سبقه، استراتيجية العمل تحت عباءة العقيدة الوهابية وممثلها الشرعي والوحيد المتمثل بآل سعود. وينتهي المشهد المغرق في سورياليته بأن يصل الى بيروت من دون أن يجد فيها أي حليف جدي: لا أبناء العالم الفرنكوفوني يهتمون، ولا الفرق الأخرى التي باتت في الجانب الآخر من العالم مثارة أصلاً.
وصل الأخ، والجميع يعرف، أنه يأتينا ليأمرنا وينصحنا باعتماد برامج توطين النازحين السوريين في لبنان. يعفي نفسه من مسؤولية تهجيرهم، ومن مسؤولية العمل على إعادة الاستقرار الى سوريا ليعودوا إليها مكرمين مرفوعي الرأس. يعفي نفسه من مسؤولية أخلاقية واجتماعية واقتصادية، ويطلب إلينا العمل، بما تيسر، لتوطين النازحين. يطلب، أولاً، تسميتهم لاجئين، وفي باله فلسطين جديدة. ويطلب البحث في تعديل القوانين والبرامج العامة لتتاح لكل نازح سوري الحقوق التي يتمتع بها المواطن اللبناني... ما عدا التصويت. وهو، هنا، لا يهتم للتصويت، لا لعدم رغبته في تعزيز المواطنية لدى هؤلاء، بل لكونه يعرف أن الديموقراطية اللبنانية، الموروثة من جمهوريات الاستعمار الفرنسي، تجعل التصويت حالة فولكلورية لا أكثر.
طبعاً، يحق لهولاند تجاهل الهواجس الكبرى. فكيف يشعر بها طالما أن المسؤولين عندنا لا يهتمون بها أصلاً. يطلبون منه التدخل لانتخاب رئيس. ويسألونه أن يتحدث مع إيران والسعودية عن تسوية لبنانية داخلية. كان ينقصه أن يتجاوز الحدود، قليلاً، ليسأل السوريين عن كيفية إدارة لبنان طالما أن عبد الحليم خدام لم يسعفه من منفاه الباريسي. يريد أن يعلمنا أصول الضيافة، فيما يتوجّه ــ شأنه شأن من سبقه كديفيد كاميرون وبان كي مون ــ الى مخيم للنازحين أُعدّ سلفاً لاستقبال كبار الزوار. يتصرف بوحشية بشعة، وكأنه يزور معرضاً يخرج منه بعيّنة من المعروضات. هكذا، يختار عائلة سورية، يحملها الى باريس، ليشرح لها أصول العلمانية هناك، على أن ينسى أفرادها تاريخهم الثقافي والاجتماعي والسياسي، ليتمكّنوا من العيش ضيوفاً في فرنسا.
لم يحاول هولاند، أصلاً، أن يقلّد أنجلينا جولي التي زارت المخيم نفسه. يأتي من يفترض أنه رئيس أقوى دول أوروبا، مثل «سفير نوايا حسنة»، علماً بأنه لا نوايا حسنة مع أمثاله.
لو كانت لهولاند استقلالية ما، أو معرفة بأصول الحريات والديموقراطية وحقوق الإنسان، لكان بادر، قبل زيارته، الى إطلاق الرهينة لدى حكومته، جورج عبدالله، الذي يستمر أسيراً، كرمى لعيون السيد الأميركي وصِبيته من العرب والإسرائيليين.
لكن، كما يقول المثل الشعبي، «ما في نوى». هولاند ضيف ثقيل الدم والحضور. أما فرنسا التي يحنّ إليها لبنانيون، فصارت من الأرشيف!